الدياميس ورحم ولادة الكنيسة
Posted by mechristian في سبتمبر 15, 2011
الدياميس ورحم ولادة الكنيسة
(بتصريف الحسناء السورية)
لقد اتسمت القرون الأربعة الأولى من ظهور المسيحية باضطهادات قاسية عذبت المسيحيين كثيراً ومنعتهم بالتالي من ممارسة طقوسهم وعباداتهم، ولم يكن للمسيحية الفتية الظاهرة حديثاً أن تقاوم الوثنية الراسخة في قلوب غالبية الناس،
إلاّ أن هؤلاء المؤمنين فهموا أن ثباتهم وقوتهم لن تزداد إلاّ بازدياد المحبة والإلفة بينهم، أن قوّتهم الأساسية تأتي من الخبز السماوي أي من الإفخارستية المقدسة، وإذ لم يستطيعوا تشييد الهياكل الفاخرة الجميلة لإقامة العبادة فيها ظلوا حتى عهد قسطنطين الكبير يجتمعون في أماكن تحت الأرض ليحتفلوا هناك بسر الشكر الإلهي ويتتموا العبادة المقدسة مستمدين منها القوة والعزم والثبات.
لقد سُميت أماكن العبادة هذه بالدياميس أو الكاتاكومبات. وكانت هذه الدياميس بالتالي المهد الذي وُلدت فيه المسيحية بعيداً عن عيون الوثنيين وتحت عيون ورعاية الرب.
معنى الكلمة لغوياً
إن كلمة كاتاكومبي في اللغة اليونانية كلمة مركبة من كلمتين katav kuvmbo ومعناها الموضع حيث يُحرَق الميت، أو تلة التراب التي تركم فوق رفاته. وقد تكون الكلمة مشتقة من الفعل اللاتيني cubo بمعنى رقد. ومجمل القول فيها كيفما كان اشتقاقها أنها تفيد معنى المرقد، أو المضجع عموماً، والقبر أو المدفن خصوصاً. أما في المفهوم الكنسي، فالكلمة تدل على الكهوف الواسعة والمغاور الرحبة الت كان المسيحيون خوفاً من نيران الاضطهادات يتممون فروض العبادة فيها على مدافن موتاهم وذلك بحسب شهادة أوسيبيوس وإيرينيموس.
كما لا يخفى على مطالعي التاريخ أن المسيحيين رفضوا باشمئزاز عادة حرق اليونانيين والرومانيين لجثث موتاهم، إذ كانوا يضعونها على ركام من الحطب ويضرمون النار فيها على مرأىً من الجميع. كذلك فإن المسيحيين رفضوا عادة المصريين القدماء الذين كانوا يحنّطون موتاهم وأجساد الحيوانات المقدسة عندهم كالقرود والهررة وغيرها، بل اتبعوا عادة اليهود الحميدة الشريفة والتي هي الأكثر شيوعاً بينهم، فكانوا يوارون موتاهن التراب بعد تقديم الصلوات الحارة إلى الله ليرحم نفوسهم، لهم في ذلك رجاءٌ عظيم وإيمان ثابت بيوم القيامة العامة.
تاريخ الدياميس
إن هذه الدياميس التي تؤثر في نفوس مشاهديها تأثيراً كبيراً، خاصة أولئك العلماء الذين يبحثون عمن تاريخها، بظراً لضخامتها الهائلة وغرابة بنائها ودقة زينتها الداخلية، حتى صارت بعضها أشبه بقصور فخمة يتراوح عدد طبقاتها بين الواحدة إلى الخمس في ظلام دامس لا يكاد يرى المرء فيه إصبعه. ومع صعوبة الجزم في ذلك يترجح أن الدياميس لم تُحفر في زمن واحد بل خلال فترة طويلة، وعلى الرغم من الأبحاث الطويلة لعلماء الأثار في هذا المجال إلاّ أنهم حتى الآن ما وصلوا بعد إلى نتيجة واضحة وحاسمة وعلمية، فهذا بوزيو Bosio الملقب بكولومبوس الكاتاكومبات والذي صرف أكثر من نصف عمره في التنقيب والبحث فيها يلعن ما يلي: «إن الكاتاكومبات ما هي إلا مقاطع قُطعت منها الحجارة ونُقل منها التراب لتشييد أبنية مختلفة في روما، وكان المسيحيون أنفسهم يسخَّرون للعمل فيها قبل اعتناقهم المسيحية، فلما حمي وطيس الاضطهادات عليهم حوّلوها إلى ملاجئ لهم واتّخذوها مدافن لشهدائهم وموتاهم نظراً لمعرفتهم الجيدة بتضارسيها وجغرافيتها فصاروا يقيمون فيها العبادة وخاصة الإفخارستية المقدسة».
إلا أن آخرين ذهبوا إلى أن الدياميس هي آثار قديمة شُيدت تحت الأرض، وذلك استناداً لما جاء في التاريخ القديم أن القدماء شيدوا بين مدينتين أو أكثر أنفاقاً سرية يستخدمونها عند الحاجة وخاصة أثناء الحروب، فقد وُجدت آثار لمثل هذه الدياميس في كمبانيا بحسب شهادة الباحث والمنقب الجيولوجي اليوناني سترابون (46ق.م. ـ 24م).
وقال غيرهم مثل مركيMarchi ودي روسيDe rossi أن المسيحيين أنفسهم حفروا الكاتاكومبات في زمن الاضطهادات، استخدموها بادئ الأمر كمقابر لموتاهم ومع توالي العصور حفروا لها منافذ تصل إحداها بالإخرى، فصارت بمثابة شبكة من الدهاليز والمسالك قابعة في جوف الأرض حتى أن من يزورها يتحير من أين وكيف يخرج منها بعد دخوله.
إلا أن كل هذه النظريات والآراء السابقة لا تزال مرتبكة وغير مستندة إلى براهين أركيولوجية كافية، إلا أن الرأي الأخير لماركي ودي روسي يبدو أنه الأكثر واقعية في انتظار اكتشافات أثرية جديدة تغير هذا الواقع المبهم.
تقسيم الدياميس
يقسم علماء الآثار الكاتاكومبات إلى أقسام عدة:
1ـ المسالك أو الدهاليز cuniculi .
2ـ الساحات cupicula.
3ـ الساحات الداخلية capella.
1ـ المسالك أو الدهاليز:
وهي التي تصل المداخل بجانب الطريق فينحدر الزائر بدرج متعرج إلى عمق يتراوح من ثمانية إلى خمس وعشرين متراً تحت سطح الأرض، حيث يجد على شماله ويمينه مقعدين حجريين للاستراحة عند دخوله وعند خروجه منها. وتبدأ بعدها الدهاليز التي تكون تارةً رحبة وتارة ضيقة، حيناً عالية وحينا منخفضة، منارة بنور ضئيل يصل إليها من خلال ثقوب مستديرة أو مربعة الشكل في سقفها تسمى الكوى luminaria وعلى كل جدران هذه المسالك توجد حفر كبيرة لدفن الموتى الواحد فوق الآخر، ويتراوح عدد الحفر الموجودة من واحد إلى خمسة، وتسمى باللاتينية اللوتش. كل حفرة تتسع لجثة ميت أو أكثر، لذلك اختلفت أسمائها أيضاً باختلاف سعتها. وكان أهل ذلك العهد يغسلون الميت أولاً من ثم يدرجونه في كتان نقي ويضعونه أخيراً في القبر، وكثيراً ما كانوا يضعون بجانبه لباساً و أسلحة وأواني متنوعة، ولربما كانت هذه كلها رموزاً تدل على عمر الميت وحالته المادية ووضعه الاجتماعي. ثم كانوا يسدّون باب القبر ببلاطة من المرمر أو الحجر البسيط ويحكمون وضعها تجنباً لانتشار رائحة الجثة، ويكتبون على القبر بواسطة النقش رموزاً مختلفة ورسوماً وتصاوير جميلة مع ذكر اسم الميت وتاريخ مولده وانتقاله.
والجدير ذكره هنا أن الكثير من العبارات هذه كانت تشير بصورة واضحة إلى الرجاء الوطيد بقيامة الراقدين، وإلى آرائهم القويمة وإيمانهم الصحيح بشأن الموت والقيامة، ونذكر على سبيل المثال بعضاً من هذه العبارات:
«يا تيخيكوس نفسك مع القديسين».
«قسطنديا دائمةٌ، أمينة إنتقلت إلى الرب».
«أغابي ستبقى حية إلى الأبد».
«تيموثاوس سلام لك أبدي بالمسيح».
«هنا قد رقدت ذمالي حسب إرادة الله».
«ترنديانوس حي».
«أيها الشاب مرقس أنت الآن في مصاف الأبرار».
2ـ الساحات:
وهي عبارة عن محلات مربعة الشكل أو مخمسة الزوايا أو مستديرة، بمحرب في وسطه قبر معروف بما يُسمى القبر تحت القوس، وهو صار فيما بعد بمثابة المائدة المقدسة بحسب شهادة أوريليوس بروذيندوس حيث يقول أن «المذبح (أي المبني على قبر القديس إبّوليتوس) هو في آن معاً موزع للسر (أي سر الإفخارستية المقدسة) وحافظ أمين للشهيد. يحفظ رفاته إلى حين مجيء الحاكم الأزلي، ويغذي سكان تيبر (إيطاليا) بالطعام المقدس».
هذه الساحات كانت بمثابة مدافن عائلية، فيها حواجز تقسمها إلى قسمين، قسم خاص بالشعب وآخر بجماعة الإكليروس.
3ـ الساحات الداخلية:
لقد تضاربت الآراء حول شكل هذا القسم وتقسيماته، لكنه على الأرجح مؤلف من عدة ساحات صغيرة مربعة أومخمسة الزوايا تختلف عن الساحات السابق ذكرها من حيث فن العمارة والزينة والرسوم والرموز المنقوشة على جدرانها وسقوفها.
تُقسم هذه الساحات إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول هو عبارة عن مكان مخصص للمؤمنات، يجلسن فيه أثناء خدمة القداس الإلهي، والثاني هو عبارة عن قسم خاص بالمؤمنين، والقسم الثالث هو بمثابة الهيكل المقدس الآن. يتوضّع على جانبه الشرقي كرسي الأسقف وقد يكون إما متحركاً أو ثابتاً على شكل صليب، وأمامه المذبح المقدس الذي يقع على أربعة أعمدة متوسطاً المكان. على جانبي كرسي الأسقف محفورة قبور الشهداء وكذلك مقاعد للكهنة، أما على جانب الهيكل الآخر فتوجد ساحتان صغيرتان يقال أنهما كانتا غرفتين إما للموعوظين أو لحفظ الأواني المقدسة وثياب الكهنة وغيرها.
الدياميس كَرَحمٍ لفن الأيقونات
إتخذ فن التصوير في عهد الدياميس منهجاً رمزياً على الأخص. فقد عمد الفنانون إلى الإفصاح عن شعورهم الديني ومعتقداتهم الأخروية برموز جميلة، وتصاوير غاية في الروعة والبساطة، ومشاهد مستوحاة من العهدين القديم والجديد ومن الميثولوجية اليونانية والرومانية، مضيفين عليها صبغة مسيحية. وأشهر هذه الرموز التي استمر قسم منها حتى بعد انتهاء عهد الدياميس بفترة طويلة: كالسمكة والمرساة والحمامة والكرمة والقيثارة والفُلك والصليب، حتى أن الوثنيين لقّبوا المسيحيين الأولين «عَبَدة الصليب» بحسب شهادة ترتليانوس.
ونورد على سبيل المثال شرح رموز السمكة التي كانت تشير إلى إيمانهم بيسوع المسيح ابن الله المخلص للعالم Ihsou Cristo Qeou Uio Swthr إذ إن كل حرف من اسمها في اللغة اليونانية ICQUS يشير إلى كلمة من كلمات الجملة السابقة أي العقيدة السابقة.
كما مثّلوا المسيح بشكل الراعي الصالح الذي يرعى الغنم، ويعيدها إلى الحظيرة كلما شردت.
وقد اتّسم هذا الفن المسيحي الرمزي بسمة العذوبة والحنان والشعر، كما وكان بسيطاً شعبياً مفهوماً. وقد انتشرت هذه الرموز والرسومات على كل جدران الدياميس وسقوفها فصارت جزءاً منها، إذ أن مجرد رؤيتها صار يشكل مفهوماً مسيحياً ورمزاً معروفاً وعقيدةً إيمانيةً بين جميع المؤمنين.
في الظلام الدامس لهذه الكاتاكومبات رتبت الكنيسة المقدسة العبادة الإلهية وأقامت الطقوس الإلهية التي استمرت إلى يومنا هذا كما كانت جوهريّاً طبعاً، ولما انتصرت المسيحية خرجت كالحبة المدفونة تحت التراب فشيدت المعابد البهية الرحبة على سطح الأرض حسب الترتيب نفسه الذي كان في الدياميس وكذلك الفن الذي بدأ من هناك رحلة امتدت حتى يومنا هذا مشاركاً تلك الدياميس بالرموز والإشارات.
Sorry, the comment form is closed at this time.