عودة الشرق الأوسط للمسيح

لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ يَهْوِه الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.

كنت متدينا … والآن أبصر -4- الرحلة (1)

Posted by mechristian في جوان 16, 2011

كنت متدينا … والآن أبصر -4- الرحلة (1)

clip_image002

بقلم ابراهيم القبطي

تكلمت سابقا عن المسيح كمقياس إنساني ومطلق في آن واحد ، وعن الرؤية بعيون الروح كوسيلة للانتقال من عالم الزواحف إلى عالم النسور ، وعن العلاقة بالآخر (1) ، وكيف تتغير هذه العلاقة بتغير مستوى الوجود والوعي الإنساني ، كنت عندها أصف رحلتي الشخصية والتي رأيت فيها صورة لرحلة كل إنسان ، ورحلة أي إنسان هي حياته مرسومة على نهر الزمن ، كلنا نبدأ من بداية واحدة ، في بطون إمهاتنا ، ونخوض أول مغامرة بالخروج من الرحم ، ننتقل من عالم الاعتماد الكلي على الأم حيث الدفء والأمان ، إلى عالم أوسع وأرحب وأكثر حرية وأقل أمانا ، عالم ننفصل فيه عن أمهاتنا ونخوض حياتنا بأنفسنا ، وبعد هذه البداية تختلف اتجاهاتنا ورحلاتنا ، وتتفرع وتنقسم ، وتتعدد أهدافنا . قراراتنا تحدد أهدافنا ووجهتنا ، وعلى قدر التوازن بين خوفنا وفضولنا تتحدد سرعتنا ، فالخائفون قد يتوقفون عن مواصلة الرحلة ، لتواصل الرحلة مسيرتها بدونهم وفوق أنقاضهم ، أما الفضوليون والممتلئون ثقة بأنفسهم أو بما هو فوق أنفسهم يستمرون .

ولكل رحلة طريق ، يصل بين بدايتها وهدفها ، هناك الطرق الواسعة ، وهناك الطرق الضيقة ، هناك الطرق الجميلة المغرية ، وهناك الطرق المفخخة القبيحة ، وهناك الطرق الخطرة ، وهناك الطرق المنحدرة ، وهناك الطرق الصاعدة ، والطرق نحكم عليها بنهايتها ، أي إلى أين تقود !

وفي كل طريق تمتلئ نفوسنا بمشاعر مختلفة ، شعور المغامرة والإقدام أحيانا ، أو شعور الهزيمة والتخاذل ، وتتعارك مشاعرنا بين السقوط أو القيام ، وفي رحلاتنا ايضا تتقاطع الطرق ، ومعها تتقاطع حيواتنا مع الآخر ، الآخر الصديق أو الآخر العدو ، الآخر اليائس أو الآخر الحالم أو الآخر المتهور ، الآخر المعين أو الآخر المخادع ، والآخر يحدد – في الكثير من الأحيان – هدف رحلتنا … وأين ستنتهي … لو قررنا الالتصاق به دون رؤية الطريق ، وفي رحلتنا من حين لآخر نواجه تقاطع للطرق ، عندها ينبغي أن نختار أي الاتجاهات ينبغي أن نسلك ، فأهم عناصر الرحلة عنصرا الاختيار والاختبار ، “اختيار” الصحبة والطريق والهدف ، و “اختبار” كل لحظة لنعيشها في ملئها ، لأننا لن نجد رحلتنا في الكتب أو المعامل ، بل سوف نجدها حية داخل كل منا … ومن يتوقف عن تذوق كل لحظة في رحلته ، سوف تتحول رحلته إلى رحلة آليه مؤتمتة ، وسف تنتهي بكثير من الأسف وقليل من الحياة .

أما الأهم على الإطلاق في أي رحلة ، هو تأثيرها على الإنسان ، هل تستهلك الرحلة طاقة الحياة فيه ، أم تملأه بمزيد من الحياة ؟ هل يتحول الإنسان إلى روح ساطعة براقة أم إلى شبح هش خاوي في آخر الرحلة ؟

وفي رحلتي صاحبني شخص ، وأنقذني وأحبني ، وضمد جروحي ، واحتمل أخطائي ، صار صديقي وقريبي فحملني وقت ضعفي ، وأطعمني وقت جوعي ، ثم كوّن لي عيونا وآذانا حقيقية لأرى وأسمع وأفهم ، ثم اكتشفت وانا على الطريق أنه هو نفسه الطريق ، وأنه هو نفسه خبز الحياة وطعام الطريق وينبوع الماء الذي لا ينضب ، فوجدت نفسي أحيا به وله ، وفي حياته وجدت الحرية والحياة والخلود …. هذا الشخص هو المسيح رب كل الدهور.

—————–

هو الذي رأى … جلجاميش والخلود:

عندما قررت الكتابة عن رحلتي كإنسان ورحلة كل إنسان تعثرت كلماتي ، فمن أين أبدأ ؟ ثم وجدت أن أفضل بداية هي مناقشة الهدف من أي رحلة ومصيرها ، والمصير ليسي إلا الحياة الإنسانية ذاتها ، لقد كانت أكبر عقبة واجهت الرحلة الإنسانية في عمومها هي الموت ، ولكن ما هو الموت ؟ هل هو النهاية إلى العدم ؟ وهل هناك قيمة للرحلة الإنسانية لو كان هدفها وخاتمتها الموت والعدم ؟  هذا السؤال ظهر بقوة منذ فجر التاريخ ، وقبل أن تتبلور الديانات والعقائد ، وقبل حتى إنكار الديانات والعقائد …

لقد بدت الرحلة الإنسانية قاتمة في ظل الموت ، رأها الكثيرون مجرد سلسلة عشوائية من المصادفات تنتهي إلى عدم ، فما فائدة السعي إذن ؟

هل يمكن اختصار الرحلة البشرية إلى “ميلاد ، جماع ، ثم موت … هذه هي الحقائق كلها” (2) وينتهي المعنى قبل أن يبدأ ؟

لم يسترح الإنسان لهذه النهاية القاتمة ، ولهذا ظهرت أول ملحمة حاولت أن تجد إجابة على هذا السؤال ، من خلال رحلة صورت لنا الصراع ضد الموت والبحث عن الخلود في الملحمة السومرية لجلجاميش ، وصديقه أنكيدو ، كلاهما كان جبار وصاحب بأس ، قاما بالعديد من المغامرات وانتصرا ، ولكن الموت كان أقوى ، فمات أنكيدو صديق جلجاميش ، وخرجت الديدان من أنفه ، فحزن جلجاميش على موت صديقه ، ورثاه قائلا :  “من أجل أنكيدو ، خلّي وصديقي ، أبكي وأنوح نواح الثكلى .. لقد تغلبنا جميعا على الصعاب وارتقينا الجبال … فأي نوم هذا الذي غلبك وتمكن منك”  (3) ، ثم قرر أن يرتحل بحثا عن الخلود ، فما فائدة الحياة بكل جمالها وانتصاراتها طالما نهايتها الموت ، وفي رحلة بحثه عن الخلود ووراء الجبال البعيدة وجد العجوز أوتانابشتيم (Utanapishtim) ، كان هو الإنسان الوحيد الذي منحته الآلهة الخلود ، فلما رآه جلجاميش قال له : “هانني أنظر إليك يا أوتانابشتيم فلا أرى هيئتك مختلفة ، فأنت مثلي لا تختلف عني ، أجل ! فأنت لم تتبدل بل إنك تشبهني ، لقد كنت أحسبك كاملا كالبطل على أهبة القتال ، إذا بي أراك خاملا مضطجعا على ظهرك ، فقل لي كيف دخلت في مجمع الآلهة ونلت الحياة الخادة؟” (4) .

كان سؤال جلجاميش يحمل يأسا حتى من الخلود ، فهل الخلود هو الخمول إلى الأبد في ثبات دائم ، بلا تغير ، بلا مغامرة ، بلا قيمة ، بلا معنى ، فقط بقاء كبقاء الصخور بلا حياة ، كما كان أوتانابشتيم خالدا لكن بلا حياة ؟

لم يكن هذا هو ما يبحث عنه جلجاميش ، ولهذا بعدما فشل جلجاميش في الحصول على الخلود ، الذي هو مجرد منحة عشوائية من الآلهة ، قرر أن يعود إلى مدينته اوروك ويشيد ويبني الصروح ، وأن يصنع خلوده بأعماله وبحياته التي ظنها سوف تبقى على مر الزمن ،  ولكن العجيب أنه حتى هذا الخلود الذي اشتهاه لم يبق خالدا ، لأن الخلود الحقيقي الذي ناله جلجاميش هو خلود الفكرة والقصة والرحلة ، فمدينة أوروك زالت ، وزالت معها الحضارة السومرية بأكملها ، وبقت قصة الرحلة الخالدة التي قام بها ، والتي لاتزال تلهب مشاعر الكثيرين حتى هذه اللحظة … فهل يا ترى القصة أحق بالخلود من صاحبها ؟

القصة الخالدة تعلن عن جلجاميش “الذي رأي” خلود بلا حياة ، وعجز عن الإجابة على مصير الرحلة الإنسانية ، القصة تفرق بين الخلود والحياة ، وبين الخلود وعبادة الآلهة ، فالبشر قديما لم يكونوا يعبدون الآلهة طمعا في الخلود ، بل خوفا من العقاب وطمعا في الثواب ، أما الخلود فهو فقط للآلهة ، ولو ناله بعض البشر  فهم في الإنعزال والصمت واللاحياة كما كان يمارسها “أوتانابشتيم” ، أما المشاعر الملتهبة التي تملأ كيان جلجاميش هي مشاعر الرغبة في الحياة .

ليس الهدف الإنساني إذن كما تروية ملحمة جلجاميش هو الاكتفاء بالبقاء والخلود والسكون ، بل أن الهدف الإنساني هو استكمال الحياة والرحلة البشرية بكل صخبها وقوتها وروعتها إلى الأبد ، ربما لهذا كانت الشجرة التي حُرم منها الإنسان في جنة عدن – طبقا للتوراة – هي شجرة الحياة وليس شجرة الخلود ، ومافقده الإنسان حقا هو الحياة بكل صخبها وقوتها إلى الأبد وليس مجرد الخلود العديم الحياة  .

ولكن كيف يجد الإنسان الحياة الأبدية وهو بيولوجياً محكوم عليه بالموت؟ ولا يعلم وسيلة للخلاص واستكمال الرحلة إلى مالانهاية ؟!!!

ثم ما هو مصدر هذا التناقض في الطبيعة الإنسانية ، بروحه وأعماقه يشتهي الحياة الأبدية ، وببدنه يسقط صريعا للموت ؟

كلها أسئلة بدأت بها الحضارة الإنسانية كما رأيناها في ملحمة جلجاميش ، ولا يزال يتردد صداها في نفس كل إنسان ، فهل هناك إجابة عن مصير الرحلة البشرية ؟ …

ربما جاءت قصة الحضارة البشرية بإجابة !!!

—————–

هوامش :

(1) راجع المقالات السابقة

كنت متدينا… والآن أبصر – 1-

https://mechristian.wordpress.com/2010/07/10/i-can-see-1/

كنت متدينا … والآن أبصر – 2- الرؤية

https://mechristian.wordpress.com/2010/07/22/i-can-see2/

كنت متدينا … والآن أبصر -3- الآخر

https://mechristian.wordpress.com/2010/08/24/i-can-see-3/

(2) قول الشاعر T.S. Eliot عن الحياة البشرية

(3) ص 72-73 ملحمة جلجاميش -اوديسة العراق الخالدة -ترجم طه باقر

(4) ص 87، 90 المرجع السابق

Sorry, the comment form is closed at this time.

 
%d مدونون معجبون بهذه: